نقاط منهجية في تحليل الحرب الراهنة
من الصعب بمكان كتابة مقال يستطيع تغطية جميع جوانب المشهد الذي يحدث حاليًا جرّاء العدوان الإمبريالي العالمي على إيران، إلا أن محاولة وضع منهجية واقعية وواضحة لمتابعة الحدث وتحديد المواقف، يمكن أن تساعد في تحليل جميع الأبعاد المنبثقة عن الوضع الراهن، واستشراف أفقه. وليس لفهم الواقع فحسب، بل لاتخاذ موقف سليم بعيدًا عن التشجيع الأعمى، الذي يبدو أن معظم العرب لا حول لهم ولا قوة إلا بهذه المكانة الهزيلة في سياق التاريخ الراهن.
من هنا يجب علينا الانطلاق من مسلمات نتفق عليها، ثم بعد ذلك (في مقالات لاحقة) يبدأ التعاطي مع الآثار المترتبة.
١- هذه الحرب ليست خيار قيادة رعناء في “تل. أ.بيب”، بل هي خيار استراتيجي للقوى الإمبريالية العالمية، وعلى رأسها الطغمة الحاكمة في واشنطن، ولكن التنفيذ اتُّخذ بأيادٍ إسر.ا.ئيلية لغسل اليد الأمريكية من الدم الإيراني.
٢- هذه الحرب تأتي في سياق استكمال ما بدأته واشنطن باستخدام إسر.ا.ئيل في إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط وفقًا لهوى المصالح الأمريكية، من خلال تفكيك الدول وتدمير الجيوش واستبدالها بكنتونات طائفية وعرقية هزيلة، متصارعة فيما بينها على بقايا القمامة التي ترميها لهم الإمبريالية الأمريكية بعد نهبها لثروات بلادهم. وبالتالي، إنشاء دويلات معدومة الوزن وقليلة القابلية للحياة إلا على الارتزاق، شبيهة في شكلها بالدولة العنصرية الفئوية في إسر.ا.ئيل، ومختلفة عنها في المضمون من حيث علاقات التبعية والتطور.
٣- إيران، بغض النظر اتفقت مع نظامها أم لا، إلا أنها تشكل نموذجًا لمحاولة دولة في المنطقة فك التبعية للغرب الإمبريالي، والاستقلال في القرار السياسي والاقتصادي والثقافي. وهذا نموذج شحيح تاريخيًا في المنطقة. وربما كانت أبرز محاولاته اثنتين:
الأولى في زمن محمد علي الكبير في مطلع القرن التاسع عشر، عندما حاول أن يجعل من مصر دولة برجوازية حداثية صناعية ومنافسة للسوق الأوروبية، وحاول فك الارتباط بالإمبراطورية العثمانية المتخلفة، فما كان من قوى الاستعمار المتحاربة فيما بينها آنذاك إلا أن اتحدت على تدمير مشروعه هذا بالغزو الاستعماري المباشر وبدعم السلطنة العثمانية المتهالكة، فانتهت بهذا الشكل التجربة الأولى، وتلاها بعد ذلك مئة عام ونيف من الحكام العبيد لمصر.
المحاولة الثانية كانت محاولة عبد الناصر، التي انتهت أيضًا بسبب التدخل الاستعماري المباشر في حرب 1956، وبعدها الاستنزاف في حرب اليمن، ثم الضربة القاضية في نكسة حزيران 1967، وتلاها فيما بعد سياسة الانبطاح لصندوق النقد الدولي، وغرق مصر في الديون، وها هي اليوم تستعد لتكون الهدف التالي بعد إيران، وهي محاصرة بالضباع من كل حدب وصوب.
وبالتالي، فالحرب الآن هي على فكرة الانعتاق من الهيمنة الإمبريالية، ونجاحها أو فشلها متعلق بالدرجة الأولى بصمود إيران.
٤- البرنامج النووي الإيراني ليس إلا ذريعة واهية لهذه الحرب، فجوهر القضية هو خطورة وجود دولة إقليمية مستقلة كبرى خارج سياق المصالح الإمبريالية وتمتلك قوة نووية. وإلا، فلماذا لا يُكنّون هذا العداء للهند وباكستان مثلًا؟
وقد أثبتت مؤسسات القانون الدولي، مثل منظمة الطاقة الذرية ومفتشيها، كما في كل مرة، أنها مؤسسات تعمل كجواسيس صرفة ووقحة عند القوى الإمبريالية الغربية لا أكثر. من المفتشين الدوليين في العراق، إلى المبعوثين الأمميين إلى سوريا، وصولًا إلى ما يحدث في إيران.
٥- العرب، كعادتهم، بعد سقوط سوريا نتيجة الحرب العالمية عليها وفساد حكامها ونهجهم الاقتصادي المدمر للبلاد، وتسليمها لثلة من عملاء الاستعمار والمتطرفين، أصبحوا بلا أي وزن سياسي، وينتظرون أن تسقط إيران كي ينالوا حصتهم من نهب إيران بعد تفتيت الدولة والمجتمع الإيراني. وهذا وهم، فالغرب لن يترك لهم من إيران إذا نجح مشروعه، إلا أن يُلقوا ذات المصير. ومن يتوهم غير ذلك، فهو لا يتبع تحليلًا أو علمًا، بل يتبع أمنيات داخلية عنده أو عند مشغّليه، وما أكثرهم.
٦- من المؤكد أن المشروع الإمبريالي إن نجح في إيران وسقطت طهران، فإن الدور التالي سيكون على الدول التي يمكن أن تكون نموذجًا لدولة أمة في المنطقة، وهي أساسًا كل من مصر وتركيا. وعلى الأرجح أن تكون مصر هي التالية، وسيخلقون لذلك آلاف المبررات، والضغوطات جاهزة سواء في الديون، أو في العجز الهائل في الموازنات، أو في ملف التهجير الفلسطيني، أو في ملف سد النهضة، أو الملف الليبي أو السوداني أو غاز شرق المتوسط، وغيرها من الأسباب التي يمكن أن يمزقوا من خلالها الدولة المصرية، بالاستعانة طبعًا بأفضل عملائهم، وهم حركة الإخوان المسلمين ومشتقاتها.
