وداعاً .. يا آخر من قال الحقيقة ولحنها وغناها..
بكل خشوعٍ، وبكلماتٍ تختلط فيها الأسى بالامتنان، نكتب نعيًا في رحيل قامةٍ فريدة، عبَّرت عن وجع الناس، وضحكت من عبث الواقع، وقاومت بالبيانو، وبكلمةٍ ساخرةٍ أعمق من الخطب، نكتب لزياد الرحباني، الصوت الذي عصى التصنيف، ومشى على خطوط المواجهة الاولى، ليقول دائمًا: “أنا مش كافر، بس الجوع كافر، والذل كافر، والناس اللي ساكتين كافرين.”
رحل زياد… لكنه لم يكن يومًا شخصًا عاديًا لنُسلّمه بسهولة إلى الغياب. بل كان من أولئك الذين يسكنون خالدين وعينا، عبر نوتات الموسيقى، في ضحكةٍ تختنق تحت سقف القهر.
كان زياد أكثر من فنان عبقري، كان وجعًا جميلًا بصوت ساخر.
كان مشروعًا إنسانيًا مكتمل المواصفات على أرضية ماركسية لينينية طالما فاخر بها واعتز.
لم يهادن. لا السلطة، ولا الحرب، ولا الطائفية، ولا الفن التجاري.
وقف وحده أحيانا في ساحة الفن، أو هكذا بدا غالبا، يصارع “وطن الزيف” بألحانٍ فيها من العناد ما يكفي لبناء وطنِ الكادحين… وطنٍ يسكن في القلب، لا في الخريطة فقط.
زياد لم يكن مجرد نجل فيروز وعاصي، بل كان كاتبًا عبقرياً للحقيقة، وموسيقيًا يرفض الهزيمة، ومسرحيًا للنقد العميق، ورجلًا لم يتعب من أن يكون مختلفًا، حتى وهو يدفع ثمن تلك الجرأة بوحدةٍ طويلة، وصمتٍ ثقيل.
وداعًا زياد…
يا من قلت لنا الحقيقة بكل جرأة ووضوح، يا من أحببت الفقراء دون أن تتاجر بفقرهم، يا من جعلت المسرح خبزًا يوميًا، وجعلت الموسيقى ثورةً وعي.
“بما إنو الغياب مش اختياري، خلينا نقول: رح تضل هون،
بكل كلمة كتبتها، بكل لحن طلع من وجع،
بكل ضحكة كانت حزينة، وبكل حزنٍ كان واعي.”
وداعًا يا زياد.
يا آخر من قال الحقيقة… ولحنها وغناها.
زياد حداد


